يوم عرفة
إن الليالي والأيام، والشهور والأعوام، تمضي سريعا، وتنقضي سريعا؛ وهي محط الآجال؛ ومقادير الأعمال ، فاضل الله بينها فجعل منها: مواسم للخيرات، وأزمنة للطاعات، تزداد فيها الحسنات، وتكفر فيها السيئات، ومن تلك الأزمنة العظيمة القدر الكثيرة الأجر يوم عرفة ، وقد تظافرت النصوص من الكتاب والسنة على فضله ، فيوم عرفة من الأيام الفاضلة، تجاب فيه الدعوات، وتقال العثرات، ويباهي الله فيه الملائكة بأهل عرفات، وهو يوم عظَّم الله أمره، ورفع على الأيام قدره. وهو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة، ويوم مغفرة الذنوب والعتق من النيران.
ويوم كهذا –أخي الحاج- حري بك أن تتعرف على فضائله، وما ميزه الله به على غيره من الأيام، وسأوردها لك أخي القارئ حتى يسهل حفظها وتذكرها :نسأل الله أن يعتق رقابنا من النار في هذا اليوم العظيم.
فضائل وخصائص ومميزات يوم عرفة
1) يوم عرفة أحد أيام الأشهر الحرم : والتي فضلها مسبل العطايا والنعم ، وصاحب الجود والكرم، قال تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ }( ). والأشهر الحرم هي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، ومحرم ، ورجب ويوم عرفه من أيام ذي الحجة.
2) يوم عرفة أحد أيام أشهر الحج : قال الله - عز وجل- : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ }( ) وأشهر الحج هي : شوال ، ذو القعدة ، ذو الحجة.
3) يوم عرفة أحد الأيام المعلومات: والتي أثنى الله عليها في كتابه قال الله - عز وجل- : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ }( ). قال ابن عباس –رضي الله عنهما : الأيام المعلومات : عشر ذي الحجة.
4) يوم عرفة أحد الأيام العشر التي أقسم الله بها : منبها على عظم فضلها وعلو قدرها قال الله - عز وجل- : { وَلَيَالٍ عَشْرٍ } ( ) . قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنها عشر ذي الحجة . قال ابن كثير: وهو الصحيح.
5) يوم عرفة أحد الأيام العشرة المفضلة في أعمالها على غيرها من أيام السنة: عن ابن عباس قال: قال النبي : "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشرة قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء " .( ).
ولعل الحكمة من اختيار المقارنة بين العمل في هذه العشر والتي من بينها يوم عرفه وبين الجهاد ، هو ما ذكره النبي من فضل ومكانة الجهاد في مثل قوله لمعاذ : " ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده وذروة سنامه قلت بلى يا رسول الله قال رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد " ( ) .
فقارن الصحابة بين العمل الصالح في هذه الأيام العشر وبين ذروة سنام الإسلام " الجهاد" ففاق العمل فيها الحهاد " إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء " .
6) إنه يوم إكمال الدين وإتمام النعمة : ففي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال أي آيه؟ قال: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) "( ) قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بعرفة يوم الجمعة.
7) إنه يوم عيد في الإسلام : وبخاصة لأهل الموقف ، قال : " إن يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام وهي أيام أكل وشرب " ( ). وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: (نزلت –أي آية (اليوم أكملت)- في يوم الجمعة ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد).
إنه يوم أقسم الله به: والعظيم لا يقسم إلا بعظيم .....
فهو اليوم المشهود الذي أقسم الله به في قوله: {وشاهد ومشهود }( ) ، فعن أبي هريرة أن النبي قال: " اليوم الموعود : يوم القيامة، واليوم المشهود : يوم عرفة، والشاهد: يوم الجمعة..) "( ) .
وهو الوتر الذي أقسم الله به في قوله: { والشفع والوتر} ( ). قال ابن عباس: الشفع يوم الأضحى، والوتر يوم عرفة، وهو قول عكرمة والضحاك.
9) أن صيامه يكفر سنتين: فقد ورد عند أبي داود فضل عام في صيام يوم عرفه باعتباره أحد أيام التسع الأول من ذي الحجة التي حث النبي على صيامها فعن هنيدة بن خالد-رضي الله عنه- عن امرأته عن بعض أزواج النبي قالت : " كان النبي يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر : أول اثنين من الشهر وخميسين " ( ).
ويجاب على ما رواه مسلم من قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في العشر قط" ( ) . بما ذكره الإمام النووي رحمه الله مزيلا هذا الإشكال بقوله : قول عائشة : " لم يصم العشر " يتأول قولها أنه لم يصمه لعارض مرض أو سفر أو غيرهما ، أو أو أنها لم تره صائما فيه " أ.هـ .
وبما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد بأن رواية أبو داود تثبت أنه صلى الله عليه وسلم صامها ورواية عائشة تنفي ، والمثبت مقدم على المنفي كما قرر ذلك علماء الأصول .
كما جاء فضل خاص لصيام يوم عرفة دون هذه التسع قال الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن صيام يوم عرفة : يكفر السنة الماضية والسنة القابلة) رواه مسلم في الصحيح وهذا لغير الحاج وأما الحاج فلا يسن له صيام يوم عرفة لأنه يوم عيد لأهل الموقف وعند مسلم من حديث أبي قتادة أن رسول الله سئل عن صوم يوم عرفة فقال : " يكفر السنة الماضية والسنة القابلة ".
وقد استحب العلماء رحمهم الله لغير الحاج أن يصوم هذا اليوم ليشارك الحجاج ويتعرض لنفحات الله تعالى ويحوز الأجر العظيم ، أما الحاج فلا يسن له صيام يوم عرفة؛ لأن النبي ترك صومه، وروي عنه أنه نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة.
10) أنه اليوم الذي أخذ الله فيه الميثاق على ذرية آدم: فعن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بِنَعْمان- يعني عرفة- وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذّر، ثم كلمهم قِبَلا، قال: {ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون}( ) فما أعظمه من يوم! وما أعظمه من ميثاق !
11) أنه يوم مغفرة الذنوب والعتق من النار: ففي صحيح مسلم عن عائشة _رضي الله عنها_ عن النبي قال: {ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدأ من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟}.
12) أنه يوم المباهاة الملائكة بأهل الموقف: أهل عرفة ، عن ابن عمر أن النبي قال: {إن الله تعالى يباهي ملائكته عشية عرفة بأهل عرفة، فيقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شعثا غبراً }( ).
وفي رواية : " إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء فيقول لهم انظروا إلى عبادي هؤلاء جاءوني شعثا غبرا "( ).
قال ابن القيم رحمه الله : "أنه في يوم عرفة يدنو الرّبُّ تبارك وتعالى عشيةَ مِن أهل الموقف، ثم يُباهي بهم الملائكة فيقول: (مَا أَرَادَ هؤُلاءِ، أُشْهِدُكُم أنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُم) وتحصلُ مع دنوه منهم تبارك وتعالى ساعةُ الإِجابة التي لاَ يَرُدُّ فيها سائل يسأل خيراً فيقربُون منه بدعائه والتضرع إليه في تلك الساعة، ويقرُب منهم تعالى نوعين من القُرب، أحدهما: قربُ الإِجابة المحققة في تلك الساعة،
والثاني: قربه الخاص من أهل عرفة، ومباهاتُه بهم ملائكته، فتستشعِرُ قلوبُ أهل الإِيمان بهذه الأمور، فتزداد قوة إلى قوتها، وفرحاً وسروراً وابتهاجاً ورجاء لفضل ربها وكرمه، فبهذه الوجوه وغيرها فُضِّلَتْ وقفةُ يومِ الجمعة على غيرها " هــ .
فيا عباد الله : يوم هذه فضائله ومزاياه ، وهذه منزلته ودرجته ، أيليق أن نفرط فيه ؟ أو نعرض عن التعرض فيه لنفحات ربنا وعظيم عفوه ورحمته ؟
لا والله ، إن المستحب لكل مسلم أن يستغل هذه الفرصة العظيمة بالإكثار من العمل الصالح من ذكرٍ ودعاءٍ وقراءةٍ وصلاةٍ وصدقةٍ لعله أن يحظى من الله تعالى بالمغفرة والعتق من النار .
أيها المسلمون : لنكثر من الدعاء والتضرع بين يدي ربنا وخالقنا سبحانه وتعالى ، فهذا يوم إجابة ، وقد قال ربكم { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}( )
هذا اليوم يوم خوف وخشوع وخشية من الله ، يوم يذل فيه المؤمنون لربهم مخبتين يوم البكاء والانكسار بين يدي الغفور الرحيم، يلحون بخير الدعاء ، فاجعلوه يوم الدعاء .....
13) أن الدعاء فيه أعظم الدعاء : عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي : " قال خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " ( ). قال ابن عبد البر – رحمه الله - : وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة على غيره.
14) فيه ركن الحج العظيم : قال النبي صلى الله عليه وسلم: " الحج عرفة " ( ).
15) إنه اليوم الذي يبدأ فيه التكبير : فقد ذكر العلماء أن التكبير ينقسم إلى قسمين : التكبير المقيد الذي يكون عقب الصلوات المفروضة ويبدأ من فجر يوم عرفة قال ابن حجر –رحمه الله- : ولم يثبت في شيء من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث وأصح ما ورد عن الصحابة قول علي وابن مسعود _ رضي الله عنهم_ أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى) .وأما التكبير المطلق فهو الذي يكون في عموم الأوقات ويبدأ من أول ذي الحجة حيث كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم يخرجون إلى السوق يكبرون ويكبر الناس بتكبيرهما) والمقصود تذكير الناس ليكبروا فرادى لا جماعة .
16) إنه يوم فخر وعزة للإسلام والمسلمين : فقد احتشدوا في مكان واحد وبإزار واحد وجاءوا من كل فج عميق فهو آية عظيمة على قدرة الله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه يرى مكانهم ويعلم حالهم ويسمع كلامهم على اختلاف ألسنتهم فسبحانه من إله عظيم جل عن الأشباه والأنداد وتقدس عن الصاحبة والأولاد .